على مدار السنوات الماضية، شهدت العلاقات بين سوريا وتركيا مسارات تصعيدية شديدة الخطورة، لا سيما بعد أن تدخلت تركيا في النزاع السوري وفرضت نفسها كلاعب رئيسي في الأزمة. وكانت تلك التدخلات من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى قطع العلاقات بين البلدين، حيث استمرت هذه التدخلات في التأثير على الأوضاع في الداخل السوري بطرق متعددة ومعقدة.
في الآونة الأخيرة، أبدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مرونة ملحوظة تجاه إعادة العلاقات مع سوريا، فقد دعا نظيره السوري بشار الأسد لعقد لقاء بينهما، وهو تطور يعكس تحولاً ملحوظاً في الموقف التركي.
من جانبها، حددت سوريا شروطاً لاستئناف العلاقات، وفقاً لبيان صادر عن وزارة الخارجية السورية، قبل منتصف يوليو الماضي، التي أكدت على ضرورة احترام السيادة والاستقلال ووحدة الأراضي، إلى جانب مواجهة أي تهديدات للأمن والاستقرار التي قد تضر بمصالح البلدين والشعبين. كما أكدت على ضرورة انسحاب القوات المتواجدة بشكل غير شرعي من الأراضي السورية ومكافحة المجموعات الإرهابية التي تهدد أمن سوريا وتركيا على حد سواء.
- Advertisement -
كما أكد الرئيس الأسد، على أن “تركيا دولة جارة ويجب أن تكون علاقاتنا معها طبيعية”، وشدد على أن “إزالة أسباب الخلافات ستعيد العلاقات الطبيعية مع تركيا”، وذلك في تصريحات له خلال إدلائه بصوته في انتخابات مجلس الشعب، منتصف يوليو، لكنّه رفض أن تكون المقابلات لمجرد ما وصفه بـ “تبويس اللحى”، داعياً إلى إجراءات عملية من شأنها أن تصب في مصلحة البلدين.
وتلعب الأبعاد الاقتصادية دوراً محورياً في تعزيز فرص إعادة العلاقات بين البلدين؛ فالاقتصاد ليس مجرد دافع بل هو محرك أساسي لاستئناف العلاقات وتحقيق الاستقرار. في وقت يشار فيه إلى أهمية الملفات الاقتصادية المرتبطة بالاستثمارات السورية في تركيا وملف إعادة الإعمار في سوريا، والعلاقات التجارية، وهي ملفات تلعب دوراً محورياً في دفع جهود استئناف العلاقات بين البلدين.
هذه الملفات تبرز كيف يمكن للتعاون الاقتصادي أن يكون دافعاً أساسياً لتحسين العلاقات السياسية، حيث يتطلع الطرفان إلى الاستفادة من الفرص التي يقدمها التعاون المشترك لتحقيق التنمية والاستقرار.
يأتي ذلك في وقت تعاني فيه سوريا من أزمة اقتصادية خانقة منذ سنوات، مما يجعلها بحاجة إلى الدعم والاستثمارات الخارجية، بينما تبحث تركيا عن فرص لزيادة حجم تجارتها وتعزيز استثماراتها في المنطقة، ولا سيما مع جيرانها.
- Advertisement -
ويُنظر لاستئناف العلاقات على أنه قد يفتح الباب أمام تعزيز التعاون الاقتصادي بين سوريا وتركيا، مما قد يؤدي إلى تحفيز النمو الاقتصادي في كلا البلدين. يمكن أن تشمل مجالات التعاون مشاريع بنية تحتية مشتركة، وتبادل تجاري موسع، وإعادة بناء العلاقات الاقتصادية التي كانت قائمة قبل النزاع.
بالتالي، فإن إعادة العلاقات السورية التركية تبدو وكأنها فرصة لتحقيق توازن سياسي واقتصادي في المنطقة، حيث يمكن للطرفين الاستفادة من التعاون المشترك لتجاوز التحديات وتحقيق المصالح المشتركة.
إعادة الإعمار
- Advertisement -
وإلى ذلك، قال الخبير في الشؤون التركية، طه عودة أوغلو، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن هناك زخماً كبيراً في الملفات السياسية والأمنية بين البلدين، مؤكداً أن عربة الاقتصاد ستكون دافعة في تسريع التطبيع بين تركيا وسوريا.
وأضاف أن هناك عدة ملفات أساسية متعلقة بالتجارة والاستثمارات بين البلدين، لكن ملف إعادة الإعمار هو الأبرز الآن لتعول عليه تركيا في المرحلة المقبلة، موضحاً أن العلاقات الاقتصادية بين أنقرة ودمشق شهدت زخماً كبيراً قبل عام 2011، حيث كان هناك انتعاش للتجارة بينهما. وتوقع أنه بعد الوصول إلى مرحلة متقدمة في التطبيع السياسي بينهما يمكن أن تعود العلاقات الاقتصادية تدريجيا إلى ما كانت عليه.
وذكر أن سوريا كانت تمثل بوابة لتركيا إلى دول الخليج، وبعد أن طبعت علاقاتها مع عدد كبير من تلك الدول الخليجية منها الإمارات العربية المتحدة والسعودية والبحرين، فإنها تعول على حركة الترانزيت التي تلعب دورا محورياً في التجارة بين البلدين، خاصة فيما يتعلق بالبضائع التركية التي سوف تصدر إلى دول الخليج العربي وأيضاً الأردن.
وتابع: كل هذه الأمور ستعد مادة أساسية للتعاون بين البلدين فضلا عن اتفاقية التجارة الحرة بينهما والتي دخلت حيز التنفيذ في العام 2007 ، من المتوقع أيضاً أن تلعب دوراً كبيراً في تعزيز التبادل التجاري كما ستسهم في إنعاش الاقتصاد المتدهور بالبلدين.
وأكد أن الاستثمارات السورية التي انتعشت بشكل كبير في تركيا سوف تلعب دورا في عودة العلاقات، خاصة وأن هناك استثمارات ضخمة لسوريا داخل تركيا للسوريين خلال الفترة الماضية منها مشروعات عقارية إضافة إلى النشاط الملفت والكبير في النسيج والتصدير.
العلاقات التجارية والاقتصادية
تتمتع العلاقات التجارية بين سوريا وتركيا بتاريخ طويل من التعاون المتبادل، حيث كان البلدان يتمتعان بتبادل تجاري نشط قبل النزاع.
كان البلدان قد وقعا في نهاية العام 2004 اتفاقية التجارة الحرة، والتي دخلت حيز التنفيذ بحلول العام 2007، وهي الاتفاقية التي لعبت دوراً في تحفيز مستهدفات التبادل التجاري بين سوريا وتركيا، غير أنها توقفت بعد اندلاع الحرب بينهما.
ويحظى التبادل التجاري بأهمية بالغة بين البلدين فقد ارتفعت صادرات تركيا إلى سوريا إلى 1.84 مليار دولار في العام 2010 (قبل الحرب في سوريا) من 281 مليون دولار في العام 2000، كذلك ارتفعت الواردات إلى 629 مليون دولار، مقابل 423 مليون دولار في 2000. وسط مستهدفات كانت تشير إلى حجم تجارة يصل إلى خمسة مليارات دولار بين البلدين.
إعادة العلاقات قد تتيح للطرفين استئناف التجارة بشكل موسع، مما يسهم في تحقيق مصالح اقتصادية مشتركة. ذلك أن منتجات سورية كانت تجد سوقاً لها في تركيا، بينما كانت السلع التركية تصدّر إلى سوريا بكميات كبيرة. ومن ثم فاستئناف العلاقات يمكن أن يعيد تنشيط هذا التبادل التجاري، ويحقق فوائد اقتصادية ملحوظة لكلا البلدين.
بوابة رئيسية
من جانبه، قال المحلل التركي عضو حزب العدالة والتنمية، يوسف كاتب أوغلو، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن الاقتصاد ملف مهم في مسألة تطبيع العلاقات بين البلدين، مشدداً على أن الملفات الاقتصادية تشكل ضرورة قصوى بالنسبة لتركيا، لذا يتعين أن يكون هناك تعاون مشترك مع جميع دول الجوار، خاصة وأن الاقتصاد التركي تأثر بعد انقطاع العلاقات مع سوريا التي تمثل بوابة لتصدير الشاحنات والصادرات التركية البرية إلى الدول العربية.
وأضاف أن هناك رغبة لدى تركيا لاستخدام ملف الاقتصاد، في محاولة منها لأن يكون هناك تعاون مشترك لتفعيل وتحفيز العلاقات الاقتصادية بعيدا عن الملفات السياسية الشائكة.
وأكد أن الملف الأساسي والمهم لتطبيع وعودة العلاقات بين سوريا وتركيا هو الملف الأمني، إذ لا تزال هناك تهديدات لأمن أنقرة القومي، وهي تعلم ضرورة وجود توافقات لمحاربة هذه التهديدات للأمن الإقليمي والأمن القومي التركي، في ظل استمرار وجود التنظيمات الإرهابية والتعاون الأمني والاستخباراتي المشترك.
وأفاد بأن تركيا ترى أن هناك ضرورة لوجود تعاون مشترك مع سوريا خاصة في الملفين الاقتصادي والأمني، في محاربة بعض التحديات وبالتالي دعم الاستثمارات المباشرة والثنائية، موضحأ أن تركيا تهتم بالاستثمارات البينية بين البلدين، لما تحمله من أهمية كبيرة بالنسبة لها (..) خاصة في البنى التحتية والمناطق بالشمال السوري منعاً للتغيير الديموغرافي ومحاولات أطراف ثالثة من دول أجنبية لإنشاء كيان انفصالي أومحاولة تقسيم الأراضي السورية، ما ينعكس بشكل سلبي عليها.
وذكر أن هناك ملفات شائكة وبحاجة إلى وقت لإزالة الاختلاف في وجهات النظر والتنسيق، وأهمها وجود القوات التركية في الشمال السوري، وهو ما تعتبره أنقرة ضرورة لمنع التغيير الديموغرافي (..) ومنعا لنزوح جديد للمهجرين السوريين الذين يبحثون عن ملاذ آمن.
علاوة على ملف المهجرين السوريين وكيفية إشراكهم في العملية السياسية والدبلوماسية وضرورة أن يكون هناك تفعيل للحوار السياسي، وفقاً للقوانين الدولية، فتركيا تريد أن يكون هناك حل دبلوماسي سريع للأزمة التي طالت منذ ثلاثة عشر عام.
وأشار إلى أن من أهم الملفات الاقتصادية التي من شأنها أن تحرك العلاقات بين البلدين، تتمثل في السياحة والتجارة البينية، وتجارة التجزئة والترانزيت للمنتجات التركية عبر الأراضي السورية، أيضاً تركيا تعطي أهمية قصوى لبعض احتياجاتها السورية التي كانت تعتمد عليها، كذلك فإن أنقرة تعتبر مصدراً رئيسيا لكثير من البضائع المتقدمة في السوق السوري. وأكد أن كلا الدولتين في حاجة لدعم اقتصادهما وهو ما سيتحقق من خلال دعم الصادرات والتجارة البينية، ما سيدعم ميزان التبادل التجاري الذي هوى إلى درجة كبيرة.
أبرز الملفات الأساسية
وتأتي مساعي إعادة العلاقات بين سوريا وتركيا في سياق سياسي معقد، لكن الجوانب الاقتصادية تلعب دوراً بارزاً في دفع هذه الجهود قدماً. فقد ارتبطت العلاقات الاقتصادية بين البلدين بعدد من الملفات الرئيسية التي تشكل دافعاً قوياً لاستئناف التعاون.
ملف الاستثمارات السورية الكبيرة في تركيا، واحداً من المحفزات الاقتصادية لاستئناف العلاقات، فمنذ بداية النزاع في سوريا، لجأ العديد من رجال الأعمال السوريين إلى تركيا كوجهة للاستثمار والتجارة. وتشكل الاستثمارات السورية الكبيرة في تركيا إحدى القضايا الرئيسية التي تحفز استئناف العلاقات.
تنوعت استثمارات عديد من السوريين في قطاعات متعددة مثل العقارات والتجارة والصناعة في تركيا، وهو ما من شأنه أن يسهم في زيادة الترابط الاقتصادي بين البلدين. وبالتالي فإن استقرار العلاقات السياسية بين سوريا وتركيا من شأنه تعزيز هذه الاستثمارات وضمان استمراريتها، مما يعود بالنفع على الاقتصادين السوري والتركي على حد سواء.
كذلك تضع سوريا نصب أعينها ملف “إعادة الإعمار”، فبعد سنوات من النزاع، أصبحت سوريا بحاجة ماسة إلى جهود إعادة الإعمار. بينما تمثل تركيا أحد اللاعبين الرئيسيين في هذا الملف، نظراً لخبرتها في مجال البناء وإعادة الإعمار، فضلاً عن قدرتها على تقديم الدعم المالي والتقني.
وبالتالي فإن إعادة العلاقات بين البلدين يمكن أن تفتح المجال أمام تركيا للمشاركة بشكل أكبر في مشاريع إعادة الإعمار، مما يسهم في تسريع عملية إعادة بناء البنية التحتية السورية. في المقابل، يمكن أن تستفيد تركيا من فرص استثمارية كبيرة في السوق السوري المتعطش للإصلاحات والتطوير.
رغبة مشتركة
من جهته، أكد الباحث المتخصص في الشؤون التركية، كرم سعيد، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أن هناك زخماً ورغبة لدى كل من تركيا وسوريا في عودة العلاقات بينهما، وأن الاقتصاد هو أحد المحركات الرئيسية وراء التقارب التركي السوري.
وأشار إلى أن هناك محركات رئيسية أخرى، تدفع كل من البلدين للتقارب وهو:
- بالنسبة لتركيا: هو الملف الكردي ورغة تركيا في توسيع تحالفاتها سواء مع روسيا أو سوريا أو حتى مع العراق التي وقعت معها اتفاقية أمنية في أبريل الماضي، فهي تسعى من خلال توسيع التحالفات لمحاصرة الملف الكردي.
- كذلك التخلص من عبء اللاجئين السوريين الموجودين في تركيا.
- بالنسبة لسوريا: ترغب دمشق في الخروج من عزلتها والاستفادة من الانفتاح الإقليمي والدولي عليها.
- عودة العلاقات مع تركيا من وجهة نظر سوريا هي تمثل زيادة بحضور الدولة والتأكيد على هيبتها وقوتها.
وأكد أن سوريا تعد بوابة مهمة للصادرات التركية كما أنها سوقاً هامة لهذه الواردات، وفي ظل تعثر الاقتصاد السوري بعد الحرب هناك حاجة إلى مزيد من الاستثمارات، موضحاً أن السوق السورية ربما تبدو جاذبة للاستثمارات التركية، إذا ما تمت تسوية الأزمة سياسياً وتعزيز حالة الاستقرار في الداخل السوري.
لكنه أفاد بأن هناك جملة تحديات رئيسية في عودة العلاقات التركية السورية، ومنها:
- الوجود العسكري التركي في شمال سوريا، وهو يمثل ورقة ضاغطة في هذا الأمر.
- عودة اللاجئين في ظل استمرار حالة التوتر والحرب في الداخل (..).
تعقيدات كثيرة
وإلى ذلك، أكد الباحث في العلاقت الدولية، محمد ربيع الديهي، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أن ملف عوده العلاقات بين تركيا سوريا محفوف بتعقديات كثيرة، إلا أنه يحمل في طياته ملف اقتصادي قد يكون هو المحرك الرئيسي لعوده العلاقات بين الطرفين، خاصة وأنه مطروحًا وبقوة في مسار التطبيع بينهما.
وأفاد بأن هناك بعض الدوافع الاقتصادية لعودة العلاقات، وهي:
- زيادة معدل التبادل التجاري بين البلدين، خاصة وأن عودة العلاقات الاقتصادية بينهما إلى الوضع الطبيعي، سيتبعه ارتفاع في التبادل التجاري بين الجانبين خصوصاً أن السوق السورية تعاني حالياً من نقص حاد في السلع والمواد الأولية، هو الأمر الذي سيترتب عليه استخدام ترتيبات مؤقتة لتسهيل التجارة، قد تشمل قواعد مبسطة لتيسير تدفق البضائع ريثما يتم التوصل إلى اتفاقيات جديدة.
- حجم الاستثمارات السورية في تركيا ، لا سيما بعد نزوح رأس المال السوري عقب الأزمه السورية إلى تركيا يقدر هذا الاستثمار بمليارات الدولارات، لتشمل بشكلٍ أساسي صناعة المنسوجات والملابس والتجارة والبناء.
- كلفة ملف إعادة الأعمار في سوريا، إذ أن عودة العلاقات قد تؤدي إلى فرص كبيرة للشركات التركية للمشاركة في إعادة تطوير البنية التحتية السورية، سواء عبر توقيع اتفاقيات تعاون ثنائية، أو من خلال التنسيق مع وكالات الأمم المتحدة المعنية بإعادة الإعمار والتنمية لضمان تنفيذ المشاريع بما يتماشى مع المعايير الدولية،كذلك، يمكن السعي للحصول على دعم من المؤسسات الدولية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لتمويل مشاريع إعادة الإعمار التي تشارك فيها الشركات التركية.