وبينما تستعد واشنطن لفرض تعريفات جمركية مشددة على السلع الصينية، تتأهب بكين لاتخاذ إجراءات مضادة قد تمتد تأثيراتها إلى الاقتصاد الأميركي والعالمي، متسلحة بـ “كروت لعب” قوية.
وسط هذا المشهد المتوتر، يبرز السؤال الأهم: هل ستنجح كلتا القوتين في احتواء التبعات الاقتصادية لهذا الصراع المتجدد؟ أم أن العالم سيشهد حرباً تجارية أوسع نطاقاً تحمل في طياتها تداعيات خطيرة على الأسواق العالمية؟
بحسب الخبير الاقتصادي في جامعة ييل، ستيفن روتش، فإن خطط الرئيس الأميركي المنتخب لفرض رسوم جمركية باهظة على السلع القادمة من الصين قد تؤدي إلى اتخاذ إجراءات انتقامية مؤلمة ضد الولايات المتحدة.
- Advertisement -
وأضاف: “النظرة القومية لترامب لـ”أميركا أولاً” تتجاهل مدى اعتماد الاقتصاد الأميركي -الذي يعاني من نقص الادخار- على الصين في الحصول على السلع ورأس المال المالي”، كما كتب في صحيفة فايننشال تايمز، مضيفاً: “تمتلك الصين الكثير من أوراق اللعب لإرسال رسالة مختلفة تماماً”.
- طيلة حملته الانتخابية، طرح ترامب فكرة فرض رسوم جمركية بنسبة 60 بالمئة على الصين، ومؤخرا وعد بفرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 10 بالمئة.
- يقول ترامب إن هذا من شأنه أن يوازن اختلالات التجارة ويشجع التصنيع على العودة إلى الولايات المتحدة.
ولكن روتش يرى أن تفكير ترامب يتجاهل مقدار “التأثير الاقتصادي” الذي يمكن أن تسببه الصين إذا ردت الضربة، وهي بالفعل من المرجح أن تفعل ذلك.
ويشار في هذا السياق على سبيل المثال إلى رد بكين على الحظر الجديد الذي فرضته واشنطن على تصدير أشباه الموصلات هذا الشهر، ففي غضون يوم واحد، فرضت بكين قيوداً على مشتريات الولايات المتحدة من المعادن الأساسية، بما في ذلك فرض قيود أكثر صرامة على الجرافيت.
وهذه المادة ضرورية لصنع رقائق الكمبيوتر، والإلكترونيات المتقدمة، والألواح الشمسية.
- Advertisement -
يضيف الخبير الاقتصادي في جامعة ييل: “إن هذا يذكرنا بأن الانتقام هو الوقود الأشد خطورة لتصعيد الصراع.. وهذا أمر لا تفهمه جيدا دوائر السياسة الأميركية التي يبدو أنها تحمل فكرة خاطئة عن التبعية في اتجاه واحد ــ أن الصين تعتمد بشكل فريد على الطلب الخارجي والتقنيات الجديدة من الولايات المتحدة”.
ووفق روش، فإن تصرفات الصين الأخيرة تؤكد على ميزة كبيرة يمكنها استخدامها في حرب تجارية أوسع نطاقا، فالبلاد موطن للمعادن النادرة التي تشكل أهمية هائلة للصناعة الأميركية، وقد تطلق الصين قيودا واسعة النطاق إذا تعرضت لمزيد من التهديد.
خسارة الصين
- Advertisement -
يشير كبير الاقتصاديين بشركة “ACY” في أستراليا، الدكتور نضال الشعار، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إلى أن أي حرب تجارية محتملة بين الصين والولايات المتحدة الأميركية ستكون نتيجتها خسارة للصين؛ نظراً للطبيعة الاقتصادية الصينية التي تعتمد بشكل كبير على التصدير إلى الأسواق العالمية، وعلى رأسها السوق الأميركية، موضحاً أن جزءاً كبيراً من ثروات الصين يُستخدم لدعم عمليات التصدير، مما يجعلها أكثر عرضة لتأثيرات أي توتر تجاري.
ويلفت في الوقت نفسه إلى وجود نوع من المنافسة الحادة بين الصين من جهة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، فيما يتعلق بإنتاج سلع وخدمات تماثل المنتجات الغربية. هذه المنافسة، التي ازدادت حدتها خلال العقد الأخير، تتطلب تحقيق توازن لتجنب اندلاع نزاعات قد تؤدي إلى أضرار اقتصادية واسعة.
ويضيف: “الصين تعاني حالياً من ركود اقتصادي، نتيجة وصولها إلى حافة الإنتاج العالي، ما يجعلها في وضع ضعيف للتصدي لأي حرب تجارية محتملة مع الولايات المتحدة”، لافتاً إلى أن بكين قد تلجأ إلى اتخاذ إجراءات انتقامية، لكنها في الوقت ذاته تدرك أن الحوار والتفاوض مع إدارة الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب هو الخيار الأنسب لها.
ويتابع الشعار: إدارة ترامب تمتلك زخماً اقتصادياً وشعبياً كبيراً، ما يعزز من موقفها في أي مفاوضات تجارية.. الصين ستضطر إلى تقديم تنازلات في هذه المفاوضات، مما سيؤثر سلباً على اقتصادها.. كما أن بكين تواجه تحدياً كبيراً بسبب تغيّر موازين القوة الاقتصادية الدولية.
وفيما يخص الولايات المتحدة، يشير إلى أن الرئيس ترامب قد ينفذ تهديداته بفرض تعريفات جمركية جديدة على المنتجات الصينية، ولكن بشكل تدريجي، بانتظار رد الصين. ويتوقع الشعار أن تبدي الصين عقلانية في التعامل مع هذه التطورات، مفضلة المفاوضات على التصعيد.
السلاح الأقوى
وبالعودة إلى تصريحات روش، فإنه يلفت إلى أن “السلاح المالي النهائي” الذي تمتلكه بكين ربما يكون تراكمها الهائل لأذون الخزانة الأميركية. ووفقاً لروش، فإن الصين وهونغ كونغ تحتفظان مجتمعتين بنحو تريليون دولار من هذه الأوراق المالية، الأمر الذي يضعها في وضع فريد من نوعه يسمح لها بالإضرار بالصحة المالية لواشنطن.
ويستطرد: “الصين قد تلجأ إلى إضراب المشترين خلال المزادات المقبلة لسندات الخزانة، أو ربما تبدأ، وهو ما هو أكثر تطرفاً، في التخلص من وضعها الضخم كثاني أكبر دائن أجنبي للولايات المتحدة. وكل من الخيارين سيكون مدمراً للاقتصاد الأميركي المعرض للعجز، ومن شأنه أن يطلق العنان للفوضى في سوق السندات الأميركية، مع أضرار جانبية مؤلمة في الأسواق المالية العالمية”.
ووفق تقرير لـ “بيزنس إنسايدر”، فمن شأن إغراق سندات الخزانة أن يؤدي إلى انخفاض الطلب، مما يدفع العائدات إلى الارتفاع. وعندما يحدث هذا، يتعين على الحكومة الأميركية أن تدفع المزيد من الفائدة لجذب الدائنين، وهو ما يؤدي إلى تضخم مستويات الدين والعجز في الأمد البعيد.
وقد أثارت حيازات الديون الصينية القلق من قبل؛ فعندما تجاوز العائد على سندات الخزانة الأميركية لأجل عشر سنوات عتبة 5 بالمئة العام الماضي ، تساءل خبراء الاقتصاد عما إذا كانت بكين قد بدأت في بيع السندات الأميركية .
ووفق روش، فإنه “في حين يبدو من غير المحتمل، بل ومن الانتحار تقريبا، أن تتسبب الصين في مثل هذا الانهيار المالي، فمن المتهور بنفس القدر استبعاد عواقب المخاطر القصوى المترتبة على وجود خصم محاصر”.
كروت الصين
من جانبه، يقول الكاتب الصحافي المتخصص في العلاقات الدولية، محمد الخفاجي، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن ثمة مجموعة من الإجراءات والخطوات التي قد تتخذها الصين في حربها التجارية مع الولايات المتحدة، بما في ذلك فرض تعريفات جمركية مضاد، ذلك أن بكين غالباً ما ترد على التعريفات الأميركية بتعريفات مماثلة.
في 2018، خلال الحرب التجارية التي بدأها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فرضت الولايات المتحدة تعريفات جمركية على بضائع صينية بقيمة 360 مليار دولار. ردت الصين بفرض تعريفات مماثلة على بضائع أميركية شملت المنتجات الزراعية والسيارات. ونتيجة ذلك تضرر المزارعون الأميركيون بشدة، حيث انخفضت صادرات فول الصويا الأميركي إلى الصين بنسبة 50 بالمئة تقريباً في 2018، مما اضطر الحكومة الأميركية لتقديم حزمة دعم للمزارعين.
وأشار إلى أن بكين تستخدم سياسة تخفيض قيمة عملتها لتعويض تأثير التعريفات، ففي أغسطس 2019، خفضت الصين قيمة اليوان إلى أقل من 7 يوانات مقابل الدولار لأول مرة منذ أكثر من عقد، وقد كان الهدف جعل الصادرات الصينية أرخص وأكثر تنافسية رغم التعريفات الأميريكية، ولذلك فإن الولايات المتحدة صنفت الصين كـ”متلاعب بالعملة”، مما زاد من التوترات. ومع ذلك، تمكنت الصين من تقليل تأثير التعريفات على منتجاتها المصدرة.
من بين الأدوات التي قد تعتمدها بكين، بحسب خفاجي، ما يتعلق بالحد من تصدير المعادن النادرة، لا سيما وأن الصين تهيمن على نحو 80 بالمئة من الإنتاج العالمي للمعادن النادرة، التي تُستخدم في الصناعات التكنولوجية والدفاعية.
في 2023، فرضت الصين قيوداً على تصدير الغاليوم والجرمانيوم، وهما معادن تُستخدم في صناعة أشباه الموصلات، كرد على القيود الأميركية على الشركات الصينية.
كذلك من بين كروت اللعب التي تمتلكها بكين، ما يتعلق بتقليل الاعتماد على التكنولوجيا الأميركية (..) وتطوير بدائل محلية يُقلل من نقاط ضعف الصين، علاوة على تنويع الأسواق التجارية، وحتى “العقوبات الاقتصادية غير المباشرة” بحسب وصف الخفاجي، من خلال استهداف الشركات الأميركية العاملة في بكين.
وبينما يعتقد بأنه يمكن للصين الرد بعدة وسائل تتنوع بين فرض تعريفات، خفض العملة، تقييد تصدير المعادن النادرة، أو تعزيز شراكاتها التجارية مع دول أخرى، فإنه يشير إلى أن الحرب التجارية تُضر بكلا الطرفين، وتدفعهما نحو إعادة تقييم استراتيجياتهما الاقتصادية طويلة المدى.
انتقام عدواني
ويشير تقرير لصحيفة “واشنطن بوست” إلى أنه:
- لم يعد دونالد ترامب بعد إلى البيت الأبيض، ولم يتم فرض الرسوم الجمركية التي هدد بها على السلع الصينية بعد، لكن بكين تكشف بالفعل عن دليلها للتعامل مع الإدارة القادمة – وهو دليل سيتضمن انتقاماً عدوانياً.
- حتى الآن في ديسمبر – رداً على تصرفات إدارة بايدن – أطلقت بكين تحقيقاً لمكافحة الاحتكار خاصاً بشركة إنفيديا، وفرضت ضوابط صارمة على صادرات المعادن الحيوية، وأمرت الشركات بتجنب شراء رقائق الكمبيوتر الأميركية، وفرضت عقوبات على 13 شركة دفاع أميركية.
- يقول الخبراء إن هذا يشير إلى أن بكين ليست خائفة من إخافة الشركات الأجنبية وتسليح هيمنتها في العديد من سلاسل التوريد عالية التقنية، حتى مع صراعها مع اقتصاد ضعيف.
ونقلت الصحيفة عن المحلل المقيم في بكين في شركة تريفيوم تشاينا للأبحاث، جو مازور، قوله: “يبدأ هذا في تشكيل نمط حيث لا تكتفي الصين بالاحتجاج لفظياً على تصرفات الولايات المتحدة، بل إنها الآن تنتقم بشكل استباقي”.
وقال مازور: “إنه مؤشر واضح، على وجه الخصوص، لإدارة ترامب القادمة” بأن الصين لن تستوعب بعد الآن أي “قمع اقتصادي” تفرضه الولايات المتحدة.
ومع وعد ترامب بتطبيق تعريفات جمركية جديدة على السلع الصينية، فإن بكين أكثر استعداداً مما كانت عليه خلال إدارته الأولى، كما يقول المحللون، بعد أن أمضت السنوات العديدة الماضية في تطوير أدوات جديدة للرد على واشنطن.