وما يجهله الكثير من الأشخاص هو أن صناعة الرقائق ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقطاع آخر، وهو “أتمتة التصميم الإلكتروني” أو Electronic design automation المعروف بـ EDA، فخلف كل شريحة إلكترونية متطورة، يقف قطاع EDA الذي يعد الرابط الحيوي الذي يجمع بين الفكرة الأولية والتصميم الفعلي للرقائق. ورغم أن قطاع EDA يمثل 1.6 بالمئة فقط من حجم صناعة الرقائق وأشباه الموصلات العالمية التي تبلغ قيمتها 600 مليار دولار، إلا أن هذا القطاع يعد بمثابة “عنق الزجاجة” في عملية تطوير الرقائق، حيث تسمح برامج “أتمتة التصميم الإلكتروني” بتطوير واختبار مخططات الأجيال الجديدة من الرقائق قبل وضعها في الإنتاج. هيمنة أميركية ومعاناة صينية وبحسب تقرير أعدته “فايننشال تايمز” واطلع عليه موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، فإن ثلاث شركات مقرها الولايات المتحدة تهيمن على قطاع EDA العالمي وهي Synopsys وCadence وSiemens EDA، إذ تنتج هذه الشركات معاً كل البرامج المطلوبة لتصميم وإنتاج واختبار أكثر الرقائق تطوراً، وهذا ما يضع صناعة الرقائق الصينية تحت ضغط هائل ويجعلها تكافح لكسر “الخناق” الأميركي المفروض عليها، مع خضوع أدوات EDA الأميركية لضوابط التصدير التي فرضتها واشنطن على بكين. ووفقاً لشركة ICWise Research للاستشارات، تسيطر الشركات الأميركة الثلاث أي Synopsys وCadence وSiemens على ما يقرب من 80 بالمئة من سوق EDA في الصين، في حين تحاول بكين تعويض الوقت الضائع، بعد أن كانت بطيئة في إدراك ضعفها أمام الضوابط الأميركية في قطاع EDA بحسب لو شياومينج مدير مجموعة أوراسيا الاستشارية. في عام 2019، منعت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب هواوي من استخدام أدوات EDA الأميركية، وفي أغسطس 2022 منعت إدارة الرئيس جو بايدن الصين من الوصول إلى أكثر برامج تصميم الرقائق تطوراً. وتعني القيود الأميركية أن مصممي الرقائق الصينيين، لا يمكنهم إنتاج رقائق متطورة مصممة بأدوات EDA الأميركية. ورغم الجهود الصينية لدعم شركات EDA في البلاد من خلال الإعانات الحكومية، إلا أن التقدم الذي تم تحقيقه في هذا المجال لم يكن بالحجم المطلوب، فقد ضاعفت شركات EDA الثلاث الرائدة في الصين وهي Empyrean Technology وPrimarius وSemitronix حصتها في السوق المحلية من 7 في المئة إلى 14 في المئة بين عامي 2020 و2023، في حين لم تتجاوز حصة هذه الشركات في السوق العالمية نسبة الـ 2 في المئة وفقاً لشركة Insight and Info. وكشف بحث أجراه غولدمان ساكس، أن قطاع EDA في الصين ولمواكبة القادة العالميين، سيحتاج إلى إنفاق 9 مليارات دولار على البحث والتطوير كل عام، أي أكثر بـ 29 مرة، مما انفقته الصين في عام 2023، وذلك على مدى السنوات العشر القادمة، حيث يقول جيمي جودريتش، المستشار الأول لمؤسسة راند للتحليل التكنولوجي، إن قطاع EDA الصيني يعاني من عدم قدرته على تقديم أدوات لتطوير الرقائق الحديثة، مشيراً إلى أن أدوات EDA الأميركية لتصنيع الرقائق القديمة لا تزال متاحة للشركات الصينية. وكانت الصين قد حددت دعم قطاع EDA كأولوية قصوى، ضمن خطة اقتصادية مدتها خمس سنوات أصدرتها في عام 2021. وبموجب هذه الخطة، استثمر صندوق “الاستثمار في صناعة الدوائر المتكاملة” المدعوم من الدولة وشركة هواوي ملايين الدولارات في شركات EDA الناشئة في الصين. كما افتتحت الصين في العام الماضي مركزاً وطنياً للابتكار في قطاع EDA في مدينة نانجينغ، ومن أهداف هذا المركز كسر قبضة الولايات المتحدة على قطاع EDA. ما هو قطاع EDA وما هي أهميته؟ وتقول أخصائية التقنية دادي جعجع في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إنه في عالم تتزايد فيه تعقيدات التكنولوجيا، يعتبر قطاع أتمتة التصميم الإلكتروني أو EDA العمود الفقري لصناعة الرقائق وأشباه الموصلات، فهذا القطاع يلعب دوراً في تحويل الأفكار إلى منتجات ملموسة، حيث أن مفهوم قطاع EDA يقوم على توفير برامج ضرورية تمكن المهندسين من تصميم وتصنيع الرقائق بدقة وكفاءة. وبحسب جعجع فإن الشركات العاملة في قطاع EDA مهمتها تقديم مجموعة متنوعة من المنتجات البرمجية التي تسمح للمهندسين بتخطيط وتصميم الدوائر الكهربائية، التي تدخل في عملية تصنيع الرقائق الإلكترونية وتحليل أدائها، إذ يُمكن للمهندسين من خلال هذه الأدوات وضع تصور واختبار امكانات التصاميم الجديدة ومحاكاة قدراتها في بيئات افتراضية لاكتشاف الأخطاء في مراحل مبكرة قبل بدء عملية التصنيع، مما يعزز الابتكار ويقلل الأخطاء ويُخفّض التكاليف ويُسرّع الإنتاج. وتشرح جعجع أن البرامج والأدوات التي توفرها الشركات العاملة في قطاع EDA تقوم بمهمات متعددة، فهي تساعد المهندسين في تحديد المشكلات المحتملة في الرقائق قبل البدء في التصنيع، كما تقوم هذه الأدوات بتحليل وتقييم واختبار الأداء الكهربائي والحراري للرقائق، بما يضمن تلبيتها المعايير المطلوبة، مشيرة إلى أن قطاع EDA هو مفتاح صناعة الرقائق، فالرسام مثلاً لا يمكنه تنفيذ الفكرة الموجودة داخل رأسه إلا إذا كان لديه أدوات الرسم والدهانات لصنعها، تماما كمصنعي الرقائق الذين لا يمكنهم صنع رقاقة دون الأدوات التي يوفرها قطاع EDA، فصحيح أن حجم هذا القطاع يمثل ما نسبته 1.6 في المئة فقط من صناعة الرقائق وأشباه الموصلات في العالم ولكن هذه النسبة كفيلة بإيقاف الصناعة ككل. الصين في موقف ضعيف من جهته يقول المحلل التكنولوجي جوزف زغيب في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن سيطرة الولايات المتحدة على قطاع تصميم البرمجيات الإلكترونية EDA في العالم، تؤثر بشكل ملحوظ على الصين، فالشركات الصينية تعتمد بشكل كبير على أدوات EDA الأميركية، وعندما قررت واشنطن حجب وتقييد وصول بعض من هذه الأدوات لبكين، أصبحت الأخيرة في موقف ضعيف في مجال انتاج الرقائق المتطورة التي تستخدم لتشغيل برامج الذكاء الاصطناعي، فبدون إمكانية الوصول إلى أحدث تقنيات EDA، لا يمكن تطوير تصاميم جديدة في عالم الرقائق. ويشرح زغيب أن المشكلة التي تعاني منها الصين في قطاع EDA جعلتها متخلفة عن المنافسين الدوليين في هذا المجال، فبالنسبة للشركات العاملة في مجال انتاج الرقائق والتي تحتاج لاستخدام تقنيات EDA في أعمالها، فإنه من السهل عليها اللجوء للشركات الأميركية Synopsys وCadence وSiemens، وشراء كل ما تحتاجه من برامج ومنتجات من مكان واحد، ولكن وفي حال أراد منتجو الرقائق التعامل مع شركات صينية بقطاع EDA، فسيتعين على هؤلاء العمل مع عشرون شركة مختلفة لشراء جميع الأدوات المطلوبة، وهذا الأمر معقد ولا يحبذه المنتجون، كونه مكلفاً ويؤدي إلى تأخير عملية التصنيع نظراً للحاجة إلى ربط عدة أدوات برمجية ببعضها. كسر الخناق” الأميركي ويكشف زغيب أن الصين تكافح لكسر “الخناق” الأميركي على قطاع EDA، من خلال توسيع نطاق نفوذها في الأسواق العالمية، وهي لذلك تقوم بتنفيذ عدة استراتيجيات رئيسية، أبرزها زيادة الاستثمار في البحث والتطوير، إذ تقوم الحكومة الصينية بدعم الشركات المحلية من خلال تقديم تمويلات ومنح لتطوير تقنيات EDA خاصة بها، إضافة إلى تشجيع التعاون بين الجامعات والشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا، مما يسهم في تطوير كفاءات محلية في تصميم الرقائق، وأيضاً تقوم الصين باستقطاب المهندسين والخبراء في مجال EDA من الخارج، وخاصة من الدول المتقدمة. وبحسب زغيب فإن الصين تسعى إلى تحقيق اكتفاء ذاتي في قطاع EDA لضمان استدامة نموها في صناعة الرقائق وهذا أمر لا مفر منه بالنسبة لها، حيث أن نجاحها في هذا المجال يمكن أن يؤدي إلى تغييرات في العلاقات التجارية مع الدول الأخرى، وخاصة الولايات المتحدة، التي ستسعى بكل قوتها إلى عرقلة أي تقدم صيني يتم تحقيقه في صناعة تصميم وتصنيع الرقائق.