ويسعى المستشار الألماني أولاف شولتس خلال زيارته إلى نيودلهي لتعزيز التعاون التجاري بين البلدين، خصوصاً في ظل تراجع هذا التعاون مع الصين، إذ لا تقتصر طموحات ألمانيا على فتح أسواق جديدة للشركات، بل تشمل أيضًا سد فجوة نقص العمالة التي باتت تهدد استمرار النمو الاقتصادي الألماني، بحسب خبراء. ومع ذلك، فإن هذا التحول الاستراتيجي يحمل في طياته تحديات جيوسياسية قد تعيد تشكيل معادلات القوى في آسيا. فهل سيكون التعاون مع الهند هو الحل الذي تنتظره ألمانيا لإنعاش اقتصادها؟ وهل تفتح أبوابها أمام شراكة جديدة تتجاوز قيود الركود وتعويض خسائر الصين؟ وهل الهند قادرة على أن تكون البديل الاستراتيجي المثالي لألمانيا في المرحلة المقبلة؟ اقتصاد ألمانيا أزمات ومشاكل هيكلية وعلى عكس العديد من الاقتصادات الغربية التي تمكنت من التعافي بشكل ملحوظ بعد جائحة كورونا، فإن الاقتصاد الألماني لا يزال يعاني من حالة من الركود نتيجة تحديات وأزمات يعاني أبرزها أزمة أسعار الطاقة التي سببتها الحرب الروسية الأوكرانية وضعف الشركاء الاقتصاديين العالميين المهمّين مثل الصين الذي يشهد اقتصادها تباطؤاً واضحاً، والتحديات التي تواجه سلاسل الإمداد العالمية. بالإضافة إلى ذلك، يعاني الاقتصاد الألماني من مشاكل هيكلية، مثل الشيخوخة السكانية ونقص العمالة الماهرة، مما يحد من قدرته على النمو على المدى الطويل” وسجل اقتصاد البلاد انكماشاً بنسبة 0.3 بالمئة في عام 2023، في حيت تتوقع معاهد اقتصادية ألمانية أن تشهد برلين مجدداً تراجعا لإجمالي الناتج المحلي الإجمالي خلال العام 2024، بنسبة 0.1 بالمئة كونها غير قادرة على الخروج من أزمة نموذجها الصناعي، وقالت جيرالدين داني كندليك، من معهد DIW في برلين، في بيان إنه “بالإضافة إلى ضعف دورة الاقتصاد، فإن التحول الهيكلي يلقي بثقله أيضا على الاقتصاد الألماني”. ويواجه الاقتصاد الألماني أيضا خطر التراجع لعامين متتاليين. ورغم أنه من المتوقع حصول انتعاش خلال السنة، إلا أن النمو لن يستعيد وتيرته التي كان عليها قبل وباء كوفيد-19 بحسب ما توقعت مجموعة تضم خمسة معاهد (DIW، وIfo، وIfW Kiel، وIWH، وRWI). وأشارت تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن الحكومة الألمانية عليها اتخاذ تدابير لمواجهة التراجع الاقتصادي في البلاد، حيث قالت خبيرة الصندوق، أويا سيلاسون، “ينبغي أن تكون الاستثمارات العامة في ألمانيا أكبر، لأنها تعد من بين الدول الصناعية التي لديها أدنى معدلات الاستثمار العام”، ولفتت إلى ضرورة تقليص العقبات البيروقراطية وتخفيف الأعباء الإدارية على الاقتصاد. وكان الصندوق خفض توقعاته للاقتصاد الألماني مؤخراً، حيث توقع أن ينمو بنسبة 0.8 بالمئة فقط في العام المقبل بتراجع بمقدار 0.5 نقطة مئوية مقارنة بتوقعات الصندوق في يوليو الماضي. توقعات بتباطؤ نمو الاقتصاد الصيني ويعاني ثاني أكبر اقتصاد في العالم، من تباطؤ في النمو نتيجة عدة أزمات أكثرها تأثيراً ببنية اقتصاد البلاد الأزمة العقارية، إلى جانب ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب وتباطؤ استهلاك الأسر، وتحاول الحكومة منذ أكثر من عام تحفيز اقتصادها المتباطئ من خلال إطلاق العديد من الحزم لعل أبرزها خفض الاحتياطي الإلزامي الذي يتعيّن على المصارف الاحتفاظ به وخفض سعر الفائدة المرجعي للإقراض، وذلك للحفاظ على نمو اقتصادي مستهدف بنسبة 5 بالمئة. لكن صندوق النقد الدولي خفض في تقرير نٌشر الثلاثاء توقعاته لنمو الاقتصاد الصيني في عام 2024، مع تعرضه لمزيد من التباطؤ في العام القادم، محذراً من تفاقم أزمة القطاع العقاري، حيث توقع نمواً بنسبة 4.8 بالمئة في 2024 مقارنة بتقديره السابق عند 5 بالمئة، وتوقعات الحكومة في بكين عند قرابة 5 بالمئة. وأوضح الصندوق أنه يتوقع تباطؤ النمو الاقتصادي في الصين إلى 4.5 بالمئة في 2025، وحذّر من أن تفاقم أزمة القطاع العقاري هناك بوتيرة أعلى من المتوقعة يعد من بين مخاطر متعددة أخرى تُهدد آفاق الاقتصاد العالمي. لماذا الهند؟ في ظل هذه الظروف، ووسط تراجع علاقاتها التجارية والسياسية مع الصين، اتجهت ألمانيا إلى الهند كشريك اقتصادي واعد. فالهند تمتلك سوقاً كبيرة وناشئة، وقوة عاملة شابة ومؤهلة، بالإضافة إلى طموحات كبيرة في مجال التكنولوجيا والابتكار. وتسعى ألمانيا من خلال هذه الشراكة إلى تنويع شركائها التجاريين، وفتح أسواق جديدة لمنتجاتها وخدماتها، مما يساهم في تعزيز نموها الاقتصادي. ويقوم المستشار الألماني أولاف شولتس حالياً بزيارة للهند هي الثالثة له منذ العام الماضي ويرافقه فيها العديد من وزراء حكومته بهدف إجراء مناقشات بين ثالث وخامس أكبر اقتصادين في العالم. ووافقت إدارة شولتس على زيادة عدد التأشيرات الممنوحة سنويا للعمال الهنود المهرة إلى 90 ألفا، مقابل 20 ألفا في الوقت الحالي وقال شولتس “رسالتنا هي أن ألمانيا مفتوحة أمام العمال المهرة”. ووقعت الهند وألمانيا لأول مرة اتفاقية هجرة قبل عامين لتسهيل دخول المحترفين والطلاب الهنود، وتعهدت برلين كذلك تيسير إجراءات عملية تقديم طلبات التأشيرة وتحسين الاعتراف بالمؤهلات المهنية الهندية في ألمانيا. ولا تقتصر دوافع ألمانيا وراء تعزيز العلاقات مع الهند على الأبعاد الاقتصادية فحسب، بل تمتد لتشمل أبعاداً سياسية واستراتيجية، بحسب خبراء. أرضية مشتركة في حديث خاص لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” قال الدكتور نضال الشعار الخبير الاقتصادي وكبير الاقتصاديين في شركة “ACY”: “أن استراتيجية التركيز على الهند التي بدأت ألمانيا حديثاً بتنفيذها نابعة من أرضية مشتركة لكن في الوقت ذاته هذه الأرضية فيها بعض التناقض، فمن ناحية هناك استياء من قبل الهند تجاه الصين بسبب المشاكل الحدودية ومن ناحية أخرى هناك نوع من الحذر والخوف بالنسبة لألمانيا بأن تعتمد على الصين فيما يخص العلاقات التجارية الدولية، كما أنه يجب ألا ننسى ألمانيا عانت كثيراً من علاقتها مع روسيا وهي لا تريد أن تتكرر هذه الحالة مع الصين”. فعند بداية الحرب الروسية الأوكرانية كانت ألمانيا من أكثر الدول التي تضررت جراء نقص الطاقة والغذائيات وهي حذرة الآن، وتدرس موضوع التنويع في العلاقات التجارية، فكانت الهند هي الوجهة المناسبة والمنطقية لأن تنسج معها علاقة جديدة تعوض عن علاقتها مع الصين وفي الوقت ذاتها تحميها من أن تضع خياراتها في سلة واحدة، بحسب تعبيره. وفي هذا السياق، أشار الدكتور الشعار إلى أن “ألمانيا تواجه تحدياً في قدرتها على إيجاد نوع من التوازن ما بين علاقة الهند مع روسيا وعلاقة ألمانيا مع روسيا حيث أن علاقة ألمانيا مع روسيا تتسم بالعدائية في أغلب الأحيان أما علاقة الهند مع روسيا فهي علاقة صداقة، ولكن المشترك بينهما العلاقة السلبية مع الصين وبالتالي تشكل هذه العلاقة الأرضية الاستراتيجية الجديدة التي اتبعها ألمانيا والتي تتجلى بالتركيز على الهند ونرى ذلك من خلال زيارات المستشار الألماني للهند وزيارات رئيس الوزراء الهندي إلى ألمانيا بشكل متكرر”. سوق واسعة ويشرح الخبير الاقتصادي الدكتور الشعار أن الهند سوق واسعة بالنسبة لألمانيا، إذ يقد حجم التجارة بين البلدين حالياً بنحو 33 مليار دولار، ولكن ألمانيا تجد أن هذا الرقم يمكن توسيعه بشكل كبير حتى أنه يمكن أن يتجاوز الـ 60 أو 70 مليار دولار في حال كانت قادرة على عقد اتفاقيات تجارة حرة مع الهند. ويضيف: “لقد فشلت الهند والاتحاد الأوروبي في الفترة السابقة ببناء علاقة تجارية سلسة وواضحة وبالتالي ألمانيا تحاول حالياً أن تعوض هذا الفشل بأن تكون بمفردها في علاقة جيدة مع الهند، وطبعاً النموذج الفرنسي واضح تماماً بالنسبة للهند لأن فرنسا حالياً هي الشريك الأكبر للهند ما يعني أن ألمانيا ستصبح منافسة لفرنسا في هذا المجال وقد يجعل ذلك الاتحاد الأوروبي جاهزاً أكثر من أي وقت مضى لبناء علاقات جديدة تجارية وتكنولوجية وحتى ثقافية مع الهند”. الهند مصدر اليد العاملة الشابة من ناحية أخرى، فإن ألمانيا تعاني من هيكل سكاني يتصف بالشيخوخة مما يعني أنها بحاجة إلى يد عاملة، والهند لا تزال حتى الآن أكبر مصدر فيما يتعلق باليد العاملة الشابة وهناك حالياً أكثر من 45 ألف طالب هندي يدرسون في ألمانيا وعلى الأغلب هؤلاء سيصبحون سفراء للهند ويمكن استقطابهم للعمل في الاقتصاد الألماني، وبالنسبة لنقل التكنو لوجيا فالهند قادرة على ذلك وفي الوقت ذاته هناك نوع من الرغبة من الشركات الكبرى الألمانية أن تفتح فروعاً لها أو مصانع في الهند وتستثمر الموارد العمالة الرخيصة، طبقاً لما قاله الشعار. وختم كبير الاقتصاديين في شركة “ACY” بأن “هناك عوامل كثيرة تجمع بين الهند وألمانيا وكان يجب أن يستغلها البلدان منذ فترات بعيدة لكن يبدو أن الحرب الروسية الأوكرانية والمشاكل الحدودية بين الهند والصين كانت السبب الرئيس حالياً لهذا التقارب الذي أعتقد أنه سيزداد مع الوقت”. الشركات الألمانية تخطط للاستثمار في الهند من جهنبه، قال الخبير الاقتصادي حسين القمزي في حديثه لموقع اقتصاد سكاي نيوز عربية” أظهر استطلاع أجرته شركة الاستشارات (كيه بي إم جي) أن هناك كثير من الشركات الألمانية تخطط للاستثمار في الهند حيث بلغت النسبة 59 بالمئة من الشركات المستطلعة التي قالت أنها تعتزم الاستثمار أو توسيع استثماراتها هذا العام، هذا يدل على أن الهند وجهة استثمارية مهمة للشركات الألمانية في المستقبل”. عوامل تركيز ألمانيا على الهند ويؤكد القمزي تزايد الاهتمام في ألمانيا بتحويل تركيزها الاقتصادي من الصين إلى الهند، مشيراً في هذا السياق إلى عدة عوامل تدفع هذا التحول وهي: مع تباطؤ النمو الاقتصادي في الصين وازدياد التوترات الجيوسياسية مع الدول الغربية، تسعى ألمانيا إلى استكشاف بدائل لتقليل اعتمادها على التجارة الصينية. الهند، بما تمتلكه من سوق كبيرة واقتصاد نامٍ واستقرار سياسي نسبي، تبرز كمرشح قوي لجذب المزيد من الاستثمارات الألمانية. تجذب الشركات الألمانية انخفاض تكاليف العمالة في الهند وتوافر العمال المهرة وقاعدة المستهلكين الكبيرة. بحلول عام 2029، من المتوقع أن تزيد حوالي 80 بالمئة من الشركات الألمانية استثماراتها في الهند، وهو ما يمثل تضاعفاً مقارنة بالسنوات الماضية. مع ذلك، لا تزال هناك تحديات، مثل العقبات البيروقراطية في الهند، والنظام الضريبي المعقد، ونقص البنية التحتية، التي قد تعرقل هذا التحول. وعلى الرغم من هذه العقبات، ترى الشركات الألمانية أن الهند جزء مهم من استراتيجية “الصين + 1”، أي أنها ستواصل أعمالها في الصين مع تنويع استثماراتها في أسواق أخرى مثل الهند، وفقاً للخبير الاقتصادي القمزي.